لم تكن تلك الليلة كباقي الليالي،ولجت الفراش باكرا ممنيا نفسي بليلة وردية.راودت النوم عن أحلامه فأبى واستعصى،وعلى غير العادة قضيتها ليلة شبه بيضاء.انتظرت فيها صباح السبت الفاتح من اكتوبر سنة 1966.كان هذا اليوم فارقا في حياتي كطفل لم يتجاوز عمره 7 سنوات بانتقاله من مرحلة ماقبل التمدرس (بمدرسة التقدم النموذجية) لمرحلة المدرسة العمومية (المدرسة القديمة)..الساعة تشير إلى السابعة صباحا.حضٌرت أمي وجبة الفطور ،التي لم تكن سوى قطعة خبز مدهونة بزبدة نباتية و كأس شاي،التهمت فطوري على استعجال بين فرحة ودهشة من هول المناسبة،بينما أمي تبحث في خزانة الملابس عن بدلة تناسب حجم المناسبة..وفي خضم كل هذه الأحداث كان الوقت يمر ثقيلا وكأن على رأسي الطير.
ارتدت أمي جلبابها وفي يدها كناش الحالة المدنية وهي تمسك بيدي وكلما بدت لها الفرصة تمدني بنصيحة حسب الموقف،توجهنا إلى سكويلة البرارك(القديمة).كان الجو غائما حزينا يودع العطلة الصيفية بوجه عبوس.في طريقنا للمدرسة كانت أفواج التلاميذ متوجهة إلى المدارس المتواجدة بالحي على قلتها...
وجوه أغلبها لفحتها أشعة شمس الصيف الحارقة بالبادية حيث كان أغلب سكان الحي يقضون عطلتهم الصيفية بالأرياف.بينما نحن نقطع المسافة الفاصلة بين البيت والمدرسة.مررنا بالقرب من دار السينما السلام التي كانت تمثل لنا جوانبها ساحة مغامرات ومعارك كان أغلبها من نسج الخيال لأشخاص منحرفين المريكاني والكالة والزعيم.وصلنا الى سكويلة البرارك المتواجدة وسط البلوك الأحمر، مجموعات سكنية شيدتها سلطات الإستعمار الفرنسي لاحتواء السواعد القادمة من العالم القروي التي كانت تساهم في إقتصاد فرنسا..ولفصل هؤلاء الشباب عن محيطهم بكريان سنطرال الذي كان القاعدة الخلفية مقاومة الاستعمار...
مازالت شاردا أفكر في المسؤولية التي سأتحملها في هذه المرحلة قاطعا المسافة بين البيت والمدىسة..
أمام باب المدرسة أمهات و أباء يرافقون أطفالهم في رحلة الألف مايل،التي ستنطلق من هذه اللحظة..أمي الباتول حارسة المدرسة ترتدي وزرة زرقاء رجالية،حذاء رجالي وساعة رجالية سيدة في عقدها الخامس لا تفارق الابتسامة ثغرها كما لاتفارق يدها عصا تهش بها على المشاغبين من التلاميذ ولها فيها مآرب أخرى،،تخاطب النساء المتحلقات حول باب المدرسة بنبرة شديدة:سيداتي من فضلكن افسحوا الطريق للأستاذ،،النساء يلتفتن وجهة الاستاذ،فلم يفسحن له إلا مقدار ما يمر منه...
-أمي الباتول تطلب من النساء مرة أخرى الابتعاد عن باب المدرسة وترك أبنائهن للدخول الى المدرسة،،في هذه اللحظة اعتراني خوف من مصير سأواجهه لوحدي لا أعرف نهايته..
-مدير المدرسة مخاطبا الحارسة أمي الباتول: الأولوية في الدخول للتلاميذ الجدد..
-أمي الباتول بدورها تكرر ماجاء على لسان المدير،، الأولوية التلاميذ الجدد..
وفور سماع هذا الخطاب إختلط الحابل بالنابل فكان بمثابة إعلان عن حرب ستدور رحاها بالمدرسة،،الغبار يتطاير في الهواء حجب الرؤيا،،و ضجيج الأطفال وصيحات الأمهات يوصين أطفالهن ويودعنهم وكأنهم جنود متوجهون للحرب بالهند الصينية..
أمي بدورها تدفعني نحو الباب كباقي الأمهات في أخر وصية(مازلت تتذكر طريق البيت)،ولجنا المدرسة وسط عاصفة من الغبار.لأجد نفسي بساحة المدرسة.أرض جرداء عبارة عن صحراء قاحلة لا أشجار بها لا مساحة خضراء،
تقابلها عشرة أقسام من البناء المفكك متسلسلة في صف واحد كأنها قطار من فيلم لرعاة البقر في إحدى الصحاري المكسيكية.التحق ثلاثة معلمين بالمدير وسط الساحة،، نادى فينا أحد المعلمين من يسمع إسمه يخرج من الصف..توزع التلاميذ الجدد على ثلاثة أقسام...
وجدت نفسي مع أكثر من أربعين طفل في صف واحد لا نختلف عن بعضنا في شيء،نتشابه حتى في أدق الجزئيات والتفاصيل،نفس الحلاقة،نفس البدلة،ننعتل أحذية بلاستيكية من النوع الرخيص.وكأنك أمام شاشة تشاهد من خلالهه فيلما وثائقيا من إحدى دول امريكا اللاتينية الفقيرة ،انطلقنا مثنى مثنى وراء المعلم باتجاه القسم.
دخلنا الحجرة بسلام أمنين،فأمرنا المعلم بالجلوس،فجلسنا طوعا منتبهين إلى المعلم..
هذا الرجل الأربعيني زادته البدلة الرمادية أناقة ووقارا..
بدأ المعلم في سرد أسماء التلاميذ،وفي كل مرة يقف عند إسم،إما لغرابة الاسم أو أن الإسم يعني له شيئا،عندما نادى بإسمي وأمرني بالوقوف،سألني عن مدى قرابتي بعميد شرطة يشتغل بدائرة الأمن المعاريف،أجبته أن هذا إسمي الشخصي وليس العائلي،عندها أحس بعدم فطنته،وبطريقة لا تخلو من القسوة أمرني بالجلوس...
استئنس الأطفال بأجواء القسم الذي مازال محتفظا بحرارة فصل الصيف،اختلطت وشوشة الأطفال بزقزقة الطيور التي اتخدت من سقف الحجرة مكانا أمنا لبناء أعشاشها،،استمر المعلم في أسئلته عن مهنة الأب،أو عن أصوله،،بعدها وزع علينا أوراقا صغيرة مكتوب عليها الأدوات المراد احضارها التي لم تكن سوى قراءة المستوى الأول سلسلة إقرأ لمؤلفها المرحوم أحمد بوكماخ،نسخة من المصحف، دفتر 12 ورقة،قلم الرصاص،لوحة والطباشير...
الساعة الحادية عشر رن الجرس معلنا نهاية الفترة الصباحية،ذكرنا المعلم بإحضار الأدوات يوم الإثنين..رجعت للبيت رفقة طفل يسكن بجوارنا منتشيا بالنجاح في أول مهمة أوكلت لي،،وجدت الوالدة في انتظاري تعلو وجهها الفرحة اعترافا بنجاح إبنها البكر في أول محطة..
كان ذلك اليوم الأول والأخير بسكويلة البرارك،،حيث أن الوالد قام بنقلي للمدرسة البلدية المجاورة لبيتنا...!
تعليقات
إرسال تعليق