التخطي إلى المحتوى الرئيسي

دمعة شاردة: بقلم محم ولد الطيب/ موريتانيا


تجهم وجهها، بدا محمرا على غير عادته، اغرورقت عيناها من فرط القلق، فطفقت الهواجس والتوجسات تتلاعب بمشاعرها، فلا أحب إليها من إيجاد نقودها الضائعة التي تعينها على اقتناء القوت اليومي، والوقت يمر بسرعة لافتة غير مشفق على نفسيتها المنهكة، وقد بدأ العد التنازلي لوقت الغداء ، وأزفت عودة زوجها الذي لا يقبل بطبعه المساومة و الأعذار مهما كانت مصداقيتها، وهي لا تزال خاوية الوفاض، فخشيت أن يلحقها منه مكروه حين يأتي ولم تقدم له مائدته المعهودة، فكان لزاما عليها اختلاق خطة للتزود و إلا صارت في مرمى سهامه.
وقفت شاحبة اللون تتقاذف في رأسها الأفكار لعلها تتمكن من انتشال كرامتها وتحفظ ماء وجها.... ولسان حالها يقول:" ما أقسى الرجال في مجتمعنا فقد جعلوا من النساء هنا خدمات يسهرن على راحتهم لا كزوجات يسعدوهن بل صارت المرأة هي من تتولى جميع الأعمال من حلب وطهي وتنظيف، بينما الرجل مضجع على فراشه الوثير يتضوع المسك من جوانحه، والغريب في الأمر أن هذه شريعة يقرها له المجتمع وتبيحها له الأعراف، بل وتعيب الرجل الذي يتفانى في مشاطرة زوجته الأعمال أمام الملأ؛ فتلك خيانة للتقاليد لا تسمح بها المجتمع.
كانت تلك قضايا تبعث على الأسف بالنسبة لها كمفجوعة بفقد نقودها، فخرجت إلى السوق كعادتها تتلمس أرزاقها ، فألفته قد خلا من الناس، والشرطة يطاردون الناس بين الأزقة نظرا لمظاهرات عنيفة نظمتها بعض المنظمات الحقوقية مطالبة بإنصاف المرأة والقضاء على العبودية ومخلفاتها.
كانت تلك صدمة كبيرة بالنسبة لها، فتولت هاربة ضمن موكب الهاربين، وقلبها تتجاذبه الأفراح والأحزان: فرحا بتلك المظاهرة المطالبة بإنصافها، وحزنا على قوتها التي لم تر له بصيص أمل، وزوجها المتغطرس الذي سيأتي بعد لحظات، ففكرت في اقتراض قوتها من عند إحدى زميلاتها، لكنها ما لبثت أن غيرت رأيها، فتلك مسبة وعار بالنسبة لها، أن ترى متسكعة تفضح عيوب زوجها، وتجرح كبرياءه وتظهر عجزه أمام الناس.
وبينما هي في تلك الحالة تتمشى ذاهلة رأت أمامها كومة من النقود، فانبسطت أساريرها وأسرعت إليها، فلما دنت منها لتأخذها، سحبها أحد الشباب المشاغبين الجالسين أمام العمارة الكبيرة ، الذين درجوا على نصب هذا الفخ كل يوم بحجة أنهم يختبرون أمانة الناس وعفافهم، -ويالها من فكرة ساذجة- وما إن يدنو منه شخص لأخذه حتى يسحبونه بخيط دقيق، ثم يهجمون عليه بالضرب المبرح وينادون به سارقا، فيتوافد الناس، ويشبعون المتورط ضربا من دون ذنب اقترفه.
وقعت المسكينة من دون سابق إنذار في الفخ، فتواثب عليها الشباب المشاغبون يضربونها، ونادوا بها سارقة؛ كانت عيناها تذرف بالدموع وتصرخ لا ألما من الضرب، بل من العار الذي وقت فيه من دون مقدمات ومن حيث لا تشعر وأنها لن تجد أحدا سيصدقها .
وفي غمرة صراخها جاء اثنان من الشرطة وفرقوا الشباب المجرمين الذين اعتادوا على إشاعة الفوضى في المدينة، فانتفضت وذهب إلى بيتها.
ومخافة أن يأتي زوجها، دخلت المطبخ مسرعة ووضعت الطنجرة على موقد الغاز وصبت فيها الزيت، وفجأة دخل زوجها، فأصيبت بالذهول، احمر وجنتاها،و تسارعت دقات قلبها، فلم تعد تعرف بأي الأمور تبدأ، لكن لم تجدا بدا من الترحيب به:
-كيف كان يومك حبيبي؟
-كان يومي قاسيا كعادة أيامي الماضية لم أربح أي شيء من هذا اليوم...لقد اتعبني لعب الشطرنج .
-تهمني سلامتك فقط.
- شكرا لك......لقد دعوت صديقي اليوم للغداء معنا وهو على أثري، ألم تجهزي الأمور كلها؟ نسيت أن أتصل بك قبل عودتي؟
تلعثمت وبدت تلوح على محياها مخايل الحزن، والإحراج من هول المفاجئة التي لم ترتب لها، فبدأت تتردد قلقة على زوجها ولم تجرؤ أن تفاتحه في الأمر، وفي غمرة ترددها ذلك تجاوز الزيت في الطنجرة حد الغليان المعهود، فعادت إليه و نزعت غطاء الطنجرة، فخالته باردا لركوده ولفرط ذهولها، والدموع تنهمر من مقلتيها -قلقا وخوفا من المستقبل المجهول- فسقطت دمعة شاردة في قعر الطنجرة فانفجر منها حريق هائل التهمت ألسنته وجهها، فصرخت صرخة عظيمة، فتوافد الجيران ونقلت إلى المستشفى في غيبوبة، والأحاديث متضاربة حولها، فبين من يراها محاولة انتحار كانت تريد من ورائها التخلص من جرائم زوجها المتغطرس، ومن يراها كانت تريد أن تدارى جريمتها اليوم حين اتهمت بالسرقة، وهي تهمة قد تدمر مستقبل المرأة في مجتمعها إلى الأبد، بينما كانت هي في حقيقتها بريئة من كل تلك التهم، فتاة جميلة تحب الخير للجميع، ولكن أقدارها هي التي رمت بها بين مخالب أسد مفترس لا يرقب فيها إلا ولا ذمة، ولا يحفل إلا ببطنه، وراحته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

وطَني ياأُهزوجَةَ حُبٍ/بقلم الشاعر أحمد صالح

 وطَني ياأُهزوجَةَ حُبٍ جِئتُكَ من لَيلِ الآلامِ جئتُكَ مُشتاقَاً وحَنينيْ يَهمِسُ بِصَهيلِ الأَيامِ يا وطَني السَاكِنَ في وجديْ في قَلبي وروحي وأحلاميْ جِئتُكَ مع فَجري بإصْراريْ بِصَهيلي ونَزقي وإعصاريْ جِئتُكَ ورجالُُ كَسَرواالريحَ تَحَدوا جُموعَ الأَشّرارِ يا وطَنَ الزَنبَقِ والزَيتونِ يا عِطرَاًفاحَ منَ الليمونِ وزَهرِ اللوزِ العَابٌِقِ فَوقَ رُبانا رايَتَنا خَفَقَتْ بِسَمانا ورفاقُ الدَربِ أبَابيلٌ أسرابُ رُعودَا هادرةً في المَسّرى وفي كُلِ قُرأنا صَهَلَتْ خَيلي مُتَمَرِدَةً في القُدسِ وباحَةِ أقْصانا وجِبالُ النارِ نُفَجِرُها ثَورةُ أحجارِوبُركانا في غَزةَ أرضِ الثوارِ بالرَملَةِ صُهيوني حَذاريْ يا وَطَني الثائِرَ في وَجديْ يا صَرخَةَ كُلِ الأَحرارِ يا صوتَ الدُرةِ والقَسامِ وصَوت صلاحِ الهَدارِ وطَني يا طَهرَ الأَرضِ وعَبَقُ الطيب لأَخياريْ قسَماً سَأُواجِهُ أَقْداريْ بِيَدَيَ وعَزمي وإصراريْ وأُحَرِرُ أرضي بِشُموخٍ رُغمَ المُحتَلِ الغَدارِ أرفَعُ رايَتَنا في حَيفا في النَقَبِ وفي كُلِ دياريْ وطَني السّاكنَ في وجدانيْ  وطَني المغروسُ بِشَريانيْ وطَني يا أَرضَ الأَبطالِ وطَني يا

بالحب أسرت القلبوب/ بقلم الأستاذ حشاني زغيدي

حين نحرم معاملاتنا من العواطف، فكأننا نعري الأشجار من جمالها، حين تفقد الأشجار رونقها بتنحي الأوراق الخضراء، تفقد الشجرة لونها الزاهي ، بل يفقد المرء  الانجذاب للشجرة كونها فقدت قيمتها الجمالية ، و قياس حديثنا لا يختلف ، فالحياة بلا مشاعر فاقدة لمعناها ، فتبلد العلاقات  و جمودها مرده أن المعاملات أفرغت من شحنتها الإيجابية التي تمثلها العواطف و القيم الجمالية .ذذ تنحرف العواطف عن مدلولها الحقيقي ، حين تنحصر في زوايا ضيقة ، لا تتجاوز حدود الجمادات ، فتكون نصيبها الأكبر الافتتان بالمظاهر و الزخارف المادية ، وعاطفة الحب ليس مكانها هذا ، فهذه العواطف الفطرية ، هي إشراقة طيبة تنعش الحياة ، حين تتضاءل هذه العواطف في حياة الإنسان ، و تتهاوى كل الصور الإيجابية لتحل مكانها صور منحرفة ، تكون سببا في شقاء الإنسان ، يقول  أبو الحسن الندوي: في إشارة لهذه المعاني في حق رسول الله صلى الله عليه و سلم  (أحبّ النبيُّ القومَ بكل قلبه، فأعطوه بكل قواهم)  و هي حقيقة مقررة أن تبنى العلاقات الإنسانية على أساس الحب الصادق . تروي كتب السنة الشريفة شواهد رائعة ،  كيف كانت حياة رسولنا صلى الله و سلم ملأى بهذه الع

موسم الحزن السومري/ بقلم الكاتبة الجزائرية إيمان حماني

* في رأسي بيوت طينية حزينة عمرها ألف قصيدة سومرية فقدتُ أغنياتي الريفية وأنا أعْبر مدن الثعالب الصحراوية ماتت فيّ الحدائق ووشوشات الياسمين أنام على وهم وأصحو على وهم وأنجو على ضجعة وعزاءات المدن الفقيرة ربما سأرتدي ثياب الحِداد وأتسلق فوق كهف الزُهد ذاك مكاني الخالد ثمة نبي قديم سيبكي فوق رفاتي أما الطيور ستحرس المقبرة وتطارد كوابيس العابرين ربما سيزورني الأصحاب الأصحاب الذين خذلوني الآن هائمون في البرية يكتبون معلقات حزينة في الإذاعة كم كانت أكمامي قصيرة وأنا معهم كم كنت منسية خلف حجرة صماء ويمامة ضائعة بين الكثبان