تجهم وجهها، بدا محمرا على غير عادته، اغرورقت عيناها من فرط القلق، فطفقت الهواجس والتوجسات تتلاعب بمشاعرها، فلا أحب إليها من إيجاد نقودها الضائعة التي تعينها على اقتناء القوت اليومي، والوقت يمر بسرعة لافتة غير مشفق على نفسيتها المنهكة، وقد بدأ العد التنازلي لوقت الغداء ، وأزفت عودة زوجها الذي لا يقبل بطبعه المساومة و الأعذار مهما كانت مصداقيتها، وهي لا تزال خاوية الوفاض، فخشيت أن يلحقها منه مكروه حين يأتي ولم تقدم له مائدته المعهودة، فكان لزاما عليها اختلاق خطة للتزود و إلا صارت في مرمى سهامه.
وقفت شاحبة اللون تتقاذف في رأسها الأفكار لعلها تتمكن من انتشال كرامتها وتحفظ ماء وجها.... ولسان حالها يقول:" ما أقسى الرجال في مجتمعنا فقد جعلوا من النساء هنا خدمات يسهرن على راحتهم لا كزوجات يسعدوهن بل صارت المرأة هي من تتولى جميع الأعمال من حلب وطهي وتنظيف، بينما الرجل مضجع على فراشه الوثير يتضوع المسك من جوانحه، والغريب في الأمر أن هذه شريعة يقرها له المجتمع وتبيحها له الأعراف، بل وتعيب الرجل الذي يتفانى في مشاطرة زوجته الأعمال أمام الملأ؛ فتلك خيانة للتقاليد لا تسمح بها المجتمع.
كانت تلك قضايا تبعث على الأسف بالنسبة لها كمفجوعة بفقد نقودها، فخرجت إلى السوق كعادتها تتلمس أرزاقها ، فألفته قد خلا من الناس، والشرطة يطاردون الناس بين الأزقة نظرا لمظاهرات عنيفة نظمتها بعض المنظمات الحقوقية مطالبة بإنصاف المرأة والقضاء على العبودية ومخلفاتها.
كانت تلك صدمة كبيرة بالنسبة لها، فتولت هاربة ضمن موكب الهاربين، وقلبها تتجاذبه الأفراح والأحزان: فرحا بتلك المظاهرة المطالبة بإنصافها، وحزنا على قوتها التي لم تر له بصيص أمل، وزوجها المتغطرس الذي سيأتي بعد لحظات، ففكرت في اقتراض قوتها من عند إحدى زميلاتها، لكنها ما لبثت أن غيرت رأيها، فتلك مسبة وعار بالنسبة لها، أن ترى متسكعة تفضح عيوب زوجها، وتجرح كبرياءه وتظهر عجزه أمام الناس.
وبينما هي في تلك الحالة تتمشى ذاهلة رأت أمامها كومة من النقود، فانبسطت أساريرها وأسرعت إليها، فلما دنت منها لتأخذها، سحبها أحد الشباب المشاغبين الجالسين أمام العمارة الكبيرة ، الذين درجوا على نصب هذا الفخ كل يوم بحجة أنهم يختبرون أمانة الناس وعفافهم، -ويالها من فكرة ساذجة- وما إن يدنو منه شخص لأخذه حتى يسحبونه بخيط دقيق، ثم يهجمون عليه بالضرب المبرح وينادون به سارقا، فيتوافد الناس، ويشبعون المتورط ضربا من دون ذنب اقترفه.
وقعت المسكينة من دون سابق إنذار في الفخ، فتواثب عليها الشباب المشاغبون يضربونها، ونادوا بها سارقة؛ كانت عيناها تذرف بالدموع وتصرخ لا ألما من الضرب، بل من العار الذي وقت فيه من دون مقدمات ومن حيث لا تشعر وأنها لن تجد أحدا سيصدقها .
وفي غمرة صراخها جاء اثنان من الشرطة وفرقوا الشباب المجرمين الذين اعتادوا على إشاعة الفوضى في المدينة، فانتفضت وذهب إلى بيتها.
ومخافة أن يأتي زوجها، دخلت المطبخ مسرعة ووضعت الطنجرة على موقد الغاز وصبت فيها الزيت، وفجأة دخل زوجها، فأصيبت بالذهول، احمر وجنتاها،و تسارعت دقات قلبها، فلم تعد تعرف بأي الأمور تبدأ، لكن لم تجدا بدا من الترحيب به:
-كيف كان يومك حبيبي؟
-كان يومي قاسيا كعادة أيامي الماضية لم أربح أي شيء من هذا اليوم...لقد اتعبني لعب الشطرنج .
-تهمني سلامتك فقط.
- شكرا لك......لقد دعوت صديقي اليوم للغداء معنا وهو على أثري، ألم تجهزي الأمور كلها؟ نسيت أن أتصل بك قبل عودتي؟
تلعثمت وبدت تلوح على محياها مخايل الحزن، والإحراج من هول المفاجئة التي لم ترتب لها، فبدأت تتردد قلقة على زوجها ولم تجرؤ أن تفاتحه في الأمر، وفي غمرة ترددها ذلك تجاوز الزيت في الطنجرة حد الغليان المعهود، فعادت إليه و نزعت غطاء الطنجرة، فخالته باردا لركوده ولفرط ذهولها، والدموع تنهمر من مقلتيها -قلقا وخوفا من المستقبل المجهول- فسقطت دمعة شاردة في قعر الطنجرة فانفجر منها حريق هائل التهمت ألسنته وجهها، فصرخت صرخة عظيمة، فتوافد الجيران ونقلت إلى المستشفى في غيبوبة، والأحاديث متضاربة حولها، فبين من يراها محاولة انتحار كانت تريد من ورائها التخلص من جرائم زوجها المتغطرس، ومن يراها كانت تريد أن تدارى جريمتها اليوم حين اتهمت بالسرقة، وهي تهمة قد تدمر مستقبل المرأة في مجتمعها إلى الأبد، بينما كانت هي في حقيقتها بريئة من كل تلك التهم، فتاة جميلة تحب الخير للجميع، ولكن أقدارها هي التي رمت بها بين مخالب أسد مفترس لا يرقب فيها إلا ولا ذمة، ولا يحفل إلا ببطنه، وراحته.
تعليقات
إرسال تعليق